جيل الحجارة... عندما انتصر التلفاز على الدبّابة | أرشيف

عين يبرود، 13 آذار (مارس) 1988 | Chip HIRES/Gamma-Rapho via Getty Images

 

المصدر: «مجلّة العربي».

زمن النشر: 1 أيّار (مايو) 1988.

الكاتب: توفيق أبو بكر.

العنوان الأصليّ: «الجيل الفلسطينيّ الجديد تحت الاحتلال».

 


 

الانتفاضة الوطنيّة واسعة النطاق الّتي قام بها الجيل الفلسطينيّ الجديد، وفاجأ بها الاستعمار الصهيونيّ والعالم بأسره، تستدعي التعرّف بعمق على خصائص هذا الجيل الّذي وُلِدَ في ظلّ الاستعمار: كيف يفكّر، وكيف يتصرّف، وما مدى استعداده لتحمّل المسؤوليّة؟

فتح هذا الجيل عينيه بعد حرب حزيران (يونيو) 1967، على الجنود الأغراب المدجّجين بالسلاح، وهم يجوبون مدنه وقراه، باختيال وعنصريّة، ينصبون الحواجز ويعتقلون العشرات، ثمّ ينطلقون بسيّاراتهم العسكريّة إلى مواقعهم الحصينة وقواعدهم. كبر هذا الجيل على الوعود العربيّة بالزحف المقدّس الّذي لم يأتِ بعد، وسمعوا من آبائهم كيف انتظروا المارد العربيّ الجبّار، بعد النكبة الأولى، وبعد الخروج الكبير عام 1948. كيف تَرَكَتْ ربّات البيوت في مدن فلسطين وقراها كلّ شيء على حاله في المنزل، على أمل العودة، بين عشيّة وضحاها، كما تقول كلّ الإذاعات العربيّة الّتي لا يمكن أن تتّفق جميعها مرّة واحدة، على قول ما لا يمكن (وما لا يريدون) تنفيذه.

سمع الفتيان تلك الحكايات المرّة مثل العلقم من آبائهم، واختزنوها في ذاكرتهم، ولمّا كبروا رأوا أنّ التاريخ يوشك أن يعيد نفسه معهم، فقرّروا ألّا ينتظروا الفرج من الخارج، وقرّروا أن يحملوا العبء على أكتافهم.

تقول الطالبة حميدة من «جامعة بير زيت»: "لقد فهمنا في وقت مبكّر أنّه إذا أردنا تحرير وطننا فلا بدّ أن نضحّي بأنفسنا. معظم رفاقي دخلوا السجن، ولم يعد ذلك يرهبهم". وفي ندوة عُقِدَتْ بالعاصمة الأردنيّة عمّان في كانون الأوّل (ديسمبر) 1986، بدعوة من «منتدى الفكر العربيّ» و«جامعة القدس المفتوحة»، قدّم د. منذر صلاح، رئيس «جامعة النجاح الوطنيّة»، الّذي أبعدته سلطات الاستعمار، بحثًا عن التعليم في الأراضي المحتلّة. في النقاش الّذي أعقب المحاضرة، قال د. صلاح "إنّ الجامعة كانت تعفي الطلّاب الّذي دخلوا السجون أثناء دراستهم الثانويّة من الأقساط الجامعيّة. وتبيّن أنّه لا بدّ من تنظيم دقيق لهذه العمليّة، إذ أنّ أكثر من نصف الطلّاب سبق لهم أن دخلوا سجون الاستعمار فترات متفاوتة".

لذلك، لتكون شخصيّة طلّابيّة، لا يكفي أن تحمل كلّ صفات القيادة الطلّابيّة المتعارف عليها في الجامعات، بل لا بدّ من رصيد آخر، وهو قضاء بضع سنوات في زنازين الاستعمار الصهيونيّ وسجونه حتّى تقبل جموع الطلاب والطالبات.

 

شروط القياديّين

الاستفتاء الشهير الّذي أجرته «صحيفة الفجر» المقدسيّة و«شبكة التلفاز الأستراليّ»، وإحدى الصحف الأمريكيّة، وأشرف عليه د. محمّد شديد، من «جامعة النجاح» في آب (أغسطس) 1986، يوضّح الحجم الهائل للثمن المباشر الّذي يدفعه السكّان في الأراضي المحتلّة عام 1948، الّذين قرّروا حمل العبء منفردين لمقاومة الاستعمار. وقد كان السؤال الخامس والعشرون الّذي طرحه الاستفتاء على عيّنة من 1100 شخص، من مختلف المدن والقرى والمخيّمات في الضفّة الغربيّة، ومن مختلف الشرائح الاجتماعيّة، هو: هل تعرّضت أنت أو أحد أفراد أسرتك لأيّ من الإجراءات التالية: اعتقال سياسيّ 47.5%، ضرب أو معاناة جسديّة أو تهديد من قبل السلطات ’الإسرائيليّة‘ 50.7%، منع السفر 34.1%، إبعاد أو إقامة جبريّة 15.7%، مضايقات أو إهانات مباشرة على الحواجز 55.7%، منع التجوّل 74.3%، هدم أو إغلاق المنازل 17.6%، غرامات ماليّة 37.6%، مصادرة أراض أو أملاك من قبل السلطات ’الإسرائيليّة‘ 22.8%، لم أتعرّض لأيّ إجراء 6.3%.

لو قرّر السكان، والجيل الجديد هو طليعتهم القياديّة، أن ينتظروا عملًا من الخارج لتحرير أرضهم وإرادتهم، لما كانوا مضطرّين لمثل هذه المقاومة العنيدة الّتي دفعت الغالبيّة الساحقة منهم ثمنًا مباشرًا لها، كما أوضحت نتائج الاستطلاع الّتي وردت في السؤال السابق، خاصّة أنّ الاستعمار كان مستعدًّا لو ابتعد الناس عن مثل هذه المقاومة أن يكون معهم ’ليبراليًّا‘ إلى أقصى الحدود، للتباهي بالصورة ’الديمقراطيّة‘ المخادعة لـ ’إسرائيل‘ أمام العالم، وكذلك من أجل دفع بروز قيادات جديدة شابّة تتعامل مع الواقع الجديد، وتذعن لمعطياته وتقبل بالأمر الواقع.

 

اتّساع الهوّة

كان بعض الإستراتيجيّين في الكيان ’الإسرائيليّ‘ يراهنون طوال الوقت خلال السنوات العشرين الماضية أن يكون الجيل الجديد الّذي عاش في رحاب الاستعمار أكثر واقعيّة – بالمعنى ’الإسرائيليّ‘ لهذا التعبير – وأن يقبل التفاوض والتعايش وفقًا للشروط ’الإسرائيليّة‘، وقد أوضحت حقائق الحياة أنّ شيئًا من تلك النبوءات لم يتحقّق.

تقول إحدى الأعضاء في «هيئة الحقوق المدنيّة في إسرائيل»: "خلال عشرين سنة نما جيل (فلسطين الاستعمار) وجيل (يهود الاستعمار)، والنتيجة مذهلة عند الطرفين، إذ تزداد الهوّة اتّساعًا مع مرور الزمن".

هذا الجيل الجديد ليس جيل الشعارات الكبيرة الّتي تميّز بها تاريخ الحركة الوطنيّة السابق، بل هو جيل عَرَفَ ثغرات عدوّه، وحاول خوض معاركه للنفاذ من هذه الثغرات. وأهمّ الثغرات الّتي بات الجيل الفلسطينيّ الجديد في الأرض المحتلّة يركّز عليها هي "الأزمة الّتي تعيشها ’إسرائيل‘"، أقصد الأزمة المستقبليّة المتعلّقة بمخاطر التوازن السكّانيّ الديمغرافيّ؛ فالفلسفة الأساسيّة الصهيونيّة الّتي حاولت تسويقها لدول العالم، هي ضرورة بناء دولة خاصّة لليهود: "دولة يهوديّة صافية لا يلوّثها الغرباء".

كان يقول عنها هرتزل، مؤسّس الصهيونيّة السياسيّة: "دولة يهوديّة مثلما فرنسا فرنسيّة وكنتاكي أمريكيّة"، لكنّ استمرار الاستعمار لأكثر من مليون ونصف مليون فلسطينيّ، يتكاثرون بمعدل ضعف التكاثر اليهوديّ، إضافة لسبعمائة ألف فلسطينيّ مزروعين في المثلّث والجليل والنقب داخل الكيان ’الإسرائيليّ‘؛ كلّ ذلك يهدّد يهوديّة الدولة مع نهاية هذا القرن، خاصّة مع ازدياد منسوب الهجرة المعاكسة – أي النزوح من ’إسرائيل‘ – ومع نضوب منابع الهجرة اليهوديّة لفلسطين المحتلّة، نضوبًا لا يكاد يكون كاملًا باستثناء بضع مئات يفدون من الاتّحاد السوفييتيّ ومن الدول الأوروبّيّة.

 

الأزمة في نظر الجيل الجديد

الجيل الفلسطينيّ الجديد يعرف جيّدًا هذه الأزمة العامّة الّتي تعيشها ’إسرائيل‘؛ فقد تحدّثوا عنها جميعًا بمناسبة مرور عشرين عامًا على الاحتلال. لذلك يصعّد نضالاته مستشرفًا آفاق المستقبل بالكثير من الطمأنينة، إذ ليس أمام الأعداء في نهاية المطاف إلّا التسليم بالانسحاب، أو ضمّ هذه المناطق وإعطاء السكّان الجنسيّة ’الإسرائيليّة‘، لتصبح الدولة دولة ثنائيّة القوميّة، وهو أبعد ما يكون عن دولة يهوديّة كما أرادها الآباء المؤسّسون الأوائل.

أمّا الاحتمال الثالث وهو طرد العرب الفلسطينيّين من أراضيهم، وهو احتمال أمامه صعوبات لا حصر لها؛ فإبعاد أربعة مناضلين في يناير الماضي، دعا «مجلس الأمن» للاجتماع، وأحدث ضجّة دوليّة واسعة؛ فكيف سيكون الأمر مع إبعاد مئات الآلاف من وطنهم؟

هذا احتمال لم يعد ممكنًا، طالما أنّه لم يتمّ عشيّة حرب حزيران 1967؛ فالمأزق الديمقراطيّ سيحوّل ’إسرائيل‘ لنموذج جنوب أفريقيا في المستقبل القريب، بل إنّ الانتفاضة الوطنيّة المجيدة قد أظهرت تلك الدولة العبريّة بشكل صريح مكشوف، وكأنّها النموذج الأكثر عنفًا من نموذج جنوب أفريقيا.

يقول المفكّر ’الإسرائيليّ‘ عيدي تْسيمِح: "الآن يولد في البلاد عرب أكثر من اليهود، وفي غضون ثلاثين عامًا ستصبح مثل جنوب أفريقيا، حيث تكون هناك أكثريّة عربيّة ساحقة. لقد قال موشي آرينز إنّه مستعدّ لمنح سكّان المناطق الجنسيّة ’الإسرائيليّة‘، وهذا يعني تسليم تل أبيب وبيت ألفا وصناعة الطيران إلى أيدي العرب. إنّ غباء سياسيّينا يكمن في أنّهم لا يعرفون أنّ هناك مشكلة على بعد دقيقتين، ولا يفقهون شيئًا في ديناميكيّة الزمن".

لكنّ شموخ الانتفاضة الوطنيّة الباسلة وعظمتها أنّها اختصرت الثلاثين عامًا الّتي تحدّث عنها المفكّر تْسيمِح، وجعلت المشكلة الّتي هي على بعد دقيقتين مشكلة راهنة، لتصبح ’إسرائيل‘ في نظر العالم كلّه، وفي نظر الرأي العامّ العالميّ ’جنوب أفريقيا الجديدة‘، كما تكتب كلّ يوم غالبيّة صحف العالم في القارّات الخمس.

شِمْعونْ بيريزْ يصف الإدانة الدوليّة الكاملة للكيان ’الإسرائيليّ‘ من خلال صور التلفاز للقمع الصهيونيّ لأطفال الحجارة، ويقول بحسرة وألم: "لقد انتصر التلفاز على الدبّابة". لكن في الحقيقة أنّ إرادة الإنسان العربيّ في فلسطين هي الّتي انتصرت على ’إسبارطة‘ المسلّحة بالتقنيّة الأمريكيّة حتّى الأسنان. تقول المحامية الإسرائيليّة فيليا لانجر في كتابها «رجال الحجارة»: "في أواخر القرن العشرين زمن لا يعقل أن يظلّ فيه بروميثيوس راسخًا في القيد، بل لعلّ هذا هو الاستنتاج الأساسيّ لدروس الحجارة الّتي تقصم ظهر آخر القلاع العنصريّة في عالمنا المعاصر".

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.